أول من اكتشف كروية الأرض علمياً
منذ العصور القديمة، بدأ الإنسان في محاولاته لفهم طبيعة كوكب الأرض، وكيفية تكوينه وموقعه في الكون. في البداية، كان الاعتقاد السائد بين العديد من الثقافات أن الأرض هي سطح مستوٍ أو شكل مسطح. لكن مع مرور الوقت، تطور العلم وظهرت العديد من الاكتشافات التي أسهمت في تغيير هذا المفهوم، ليتم اكتشاف أن الأرض كروية الشكل، وهو ما كان له تأثير كبير في تقدم البشرية وفتح آفاق جديدة في مجالات الجغرافيا والفلك والعلوم الطبيعية.
الفهم القديم لشكل الأرض
قبل أن يتم اكتشاف كروية الأرض، كان لدى العديد من الحضارات القديمة تصورات مختلفة عن شكل الأرض. في البداية، اعتقدت العديد من الشعوب أن الأرض كانت مسطحة، وأنها عبارة عن سطح ثابت غير متغير. على سبيل المثال، كان الإغريق القدماء يؤمنون في بداية الأمر أن الأرض هي سطح مسطح تدور حوله السماء والأجرام السماوية الأخرى. ولكن مع تقدم الفكر الفلسفي والعلمي في تلك العصور، بدأت تظهر فكرة جديدة.
الفكرة الكروية للأرض في حضارات قديمة
الفكرة المصرية القديمة
كان لدى المصريين القدماء أيضًا تصور عن الأرض ككوكب مستوي، ولكنهم لم يكونوا بعيدين عن الفكرة الكروية في بعض الجوانب. على الرغم من أن الأبحاث التاريخية تشير إلى أن المصريين لم يكونوا أول من قال بكروية الأرض، فإنهم أشاروا إلى أن الأرض تدور بشكل منتظم حول محورها.
الفكرة اليونانية القديمة
على الرغم من أن الفكرة الكروية للأرض لم تكن سائدة، إلا أن هناك إشارات إلى هذا التصور في الحضارة اليونانية القديمة، وبشكل خاص لدى الفلاسفة مثل بارمينيدس وفيثاغورس، الذين افترضوا في القرن السادس قبل الميلاد أن الأرض قد تكون كروية بسبب الملاحظات الفلكية المختلفة. ومع ذلك، لم يكن هناك دليل علمي قوي في تلك الفترة لدعم هذه النظرية.
إقليدس وأول الأدلة على كروية الأرض
في عام 330 قبل الميلاد تقريبًا، بدأ إقليدس (Euclid)، وهو عالم رياضيات وفلكي يوناني، في تقديم أولى الأدلة الفلكية التي تدعم فكرة كروية الأرض. في عمله، “العناصر” (Elements)، أشار إلى أن الشكل المنظم للأجرام السماوية والظلال التي تلقيها الأرض على القمر في أثناء الكسوف يمكن أن تكون دليلاً على كروية الأرض. لكنه لم يكن قد قدم دليلًا قاطعًا في ذلك الوقت.
أول من قدم الدليل العلمي القوي: أرسطو
أرسطو (Aristotle)، الفيلسوف والعالم اليوناني، يعتبر أحد أوائل العلماء الذين قدموا أدلة علمية تدعم كروية الأرض. في القرن الرابع قبل الميلاد، عرض أرسطو عددًا من الأدلة القوية على كروية الأرض، بناءً على ملاحظاته الفلكية والملاحظات العملية التي تم جمعها من رحلاته وملاحظات الكسوف. أشار أرسطو إلى ما يلي:
-
الظلال على القمر: خلال الكسوف، كانت الظلال التي تسقطها الأرض على سطح القمر دائرية، مما يدل على أن الأرض كروية.
-
تغير الأجرام السماوية: عندما يسافر المرء شمالًا أو جنوبًا، يلاحظ تغيرًا في مواقع الأجرام السماوية، وهو ما يمكن تفسيره بأن الأرض كروية.
-
الظواهر الطبيعية الأخرى: أشار أرسطو أيضًا إلى طريقة تغير مواقع النجوم في الأفق عندما ينتقل المرء إلى أماكن مختلفة على سطح الأرض.
هذه الأدلة كانت الأساس الذي دعم فكرة كروية الأرض وفتحت الباب أمام المزيد من البحوث في هذا المجال.
إراتوستينس وقياس محيط الأرض
أحد أبرز العلماء الذين قاموا بتحديد كروية الأرض بدقة هو إراتوستينس (Eratosthenes) في القرن الثالث قبل الميلاد. كان إراتوستينس عالماً يونانياً في مكتبة الإسكندرية وأستاذاً في الفلك والجغرافيا. في عام 240 قبل الميلاد، أجرى إراتوستينس تجربة رائعة لقياس محيط الأرض باستخدام الظلال.
كان قد علم أن في مدينة أسوان، على بعد 800 كيلومتر إلى الجنوب من الإسكندرية، كان هناك معبد يُظهر الشمس مباشرة في منتصف النهار في وقت الصيف، بينما في الإسكندرية كانت الشمس تُلقي بظلال عند نفس الوقت. باستخدام هذه الملاحظات، استخدم إراتوستينس زاوية الظلال لحساب محيط الأرض، ونجح في تحديده بدقة مذهلة (حوالي 40,000 كم)، وهو قريب جداً من القياس الحديث.
كلاوديوس بطليموس وعلم الفلك الكروي
في القرن الثاني الميلادي، قام كلاوديوس بطليموس، العالم الفلكي والجغرافي الروماني، بتطوير نموذج كروي للأرض كان له تأثير كبير في الفكر الغربي والعربي على مر العصور. بينما كانت بعض الملاحظات التي قدمها بطليموس حول كروية الأرض قديمة، إلا أن أطروحاته ونظرياته الفلكية كانت معترف بها على نطاق واسع في عصره. وضع نموذجًا للكرة الأرضية في فلكه ووصف الأرض على أنها ثابتة في مركز الكون.
الإسلام والعصر الذهبي للعلوم
في العصور الوسطى، كان العلماء المسلمون قد حصلوا على فهم معمق لكروية الأرض. في القرن التاسع الميلادي، قدّم الجزري والفارابي العديد من الدراسات الفلكية التي أكدت على كروية الأرض. كما كان علماء آخرون مثل ابن خلدون والرازي قد قدّموا دراسات علمية تشرح كيفية حدوث الظواهر الفلكية نتيجة لكروية الأرض.
وكان من بين أكبر المساهمات العلمية التي أيدت كروية الأرض تلك التي قامت بها رحلات العلماء المسلمين إلى المناطق الجغرافية المختلفة التي أظهرت بوضوح الشكل الكروي للأرض، كما كان للرحلات البحرية دور كبير في فهم كروية الأرض من خلال مراقبة الأفق والحركة الفلكية.
رحلة كولومبوس وفكرة اكتشاف الأرض الجديدة
في العصور الحديثة، ساعدت الاكتشافات الجغرافية في تأكيد كروية الأرض. من بين الشخصيات التي أسهمت في هذا الفهم كان كريستوفر كولومبوس الذي في عام 1492 شرع في رحلته الشهيرة عبر المحيط الأطلسي للوصول إلى الهند، معتقدًا أن الأرض كروية، ما ساعد في دعم نظرية كروية الأرض.
التكنولوجيا الحديثة والدليل القاطع
مع تطور التكنولوجيا، تمكن العلماء في العصر الحديث من تقديم أدلة قاطعة على كروية الأرض، مثل صور الأرض من الفضاء، والتي أصبحت أكثر شيوعًا منذ بداية استكشاف الفضاء في القرن العشرين. الصور التي تم التقاطها بواسطة الأقمار الصناعية والمركبات الفضائية أظهرت بشكل لا يقبل الجدل أن الأرض كروية، وأنها جزء من نظامنا الشمسي.
الخلاصة
على الرغم من أن مفهوم كروية الأرض كان معروفًا لدى العديد من الحضارات القديمة، فإن أول من قدم أدلة علمية قوية على كروية الأرض كان الفيلسوف أرسطو، الذي اعتمد على الملاحظات الفلكية والظواهر الطبيعية. بعدها جاء العالم إراتوستينس الذي قدّم قياسًا دقيقًا لمحيط الأرض. ومع مرور العصور، تأكدت هذه النظرية بفضل العديد من العلماء واكتشافاتهم العلمية في مجالات الفلك والجغرافيا.
